الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال الشاعر: وقيل: هو من الصَّدى، وهو الصوتُ المسموعُ في الأماكنِ الخاليةِ والأجرامِ الصُّلبةِ.وقيل: من الصَّدى وهو العطش، والمعنى على التعرض، ويُتَمَحَّلُ لذلك إذا قلنا: أًصلُه من الصوت أو العطش.وقرأ أبو جعفر {تصدى} بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الصادِ، أي: تَصَدِّيك يُحَرِّضُك على إسلامِه. يقال: تَصَدِّي الرجلِ وتَصْدِيَتُه.وقال الزمخشري: وقرئ: {تصدى} بضم التاء، أي: تُعَرَّضُ، ومعناه: يَدْعوك داعٍ إلى التَّصَدِّي له من الحِرْصِ والتهالُكِ على إسلامِه.{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)}قوله: {أَلاَّ يزكى}: مبتدأٌ خبرُه عليك، أي: ليس عليك عَدَمُ تَزْكيتِه.{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)}قوله: {يسعى}: حالٌ مِنْ فاعل {جاءكَ} وقوله: {وهو يَخْشى} جملة حاليةٌ مِنْ فاعلِ {يَسْعى}، فهو حالٌ مِنْ حالٍ. وجَعْلُها حالاً ثانية معطوفةً على الأولى ليس بالقويِّ.{فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)}قوله: {تلهى}: أًصلُه تتلهى مِنْ لَهِيَ يَلْهى بكذا، أي: اشتغل، وليس هو من اللهوِ في شيءٍ.وقال الشيخ: ويمكنُ أن يكونَ منه؛ لأنَّ ما يُبْنى على فَعِل من ذواتِ الواو تَنْقَلِبُ واوه ياءً لأنكسارِ ما قبلَها نحو: شَقِي يَشْقى. فإن كان مصدرُه جاء بالياءِ فيكونُ مِنْ مادةٍ غيرِ مادةِ اللهو.قلت: الناسُ إنما لم يَجْعلوه من اللهو لأَجْلِ أنه مُسْنَدٌ إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يَليق بمَنصبه الكريم أَنْ يَنْسُبَ اللَّهُ تعالى إليه التفعُّلَ من اللهو بخِلاف الاشتغال، فإنه يجوزُ أَنْ يَصْدُرَ منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ غيرُ هذا، وإنما سَقَط الشيخ.وقرأ ابن كثير في روايةِ البزِّي عنه {عَنْهو تَّلهَّى} بواوٍ هي صلةٌ لهاءِ الكناية وتشديدِ التاءِ، والأصل تتلهى فأدغم، وجاز الجَمْعُ بين ساكنَيْن لوجود حرفِ علةٍ وإدغامٍ، وليس لهذه الآيةِ نظيرٌ: وهو أنه إذا لقي صلةَ هاءِ الكناية ساكنٌ آخرُ ثَبَتَتِ الصلةُ بل يجبُ الحَذْفُ. وقرأ أبو جعفر {تُلَهَّى} بضم التاء مبنياً للمفعولِ، أي: يُلْهِيْكَ شأنُ الصَّناديد. وقرأ طلحة {تتلهى} بتاءَيْن وهي الأصلُ، وعنه بتاءٍ واحدةٍ وسكونِ اللام.{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)}قوله: {إِنَّهَا}: الضمير للسورةِ أو للآيات.{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)}قوله: {ذَكَرَهُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ الضمير لله تعالى؛ لأنه مُنَزِّلُ التذكِرَة، وأن تكونَ للتذكرة، وذكَّر ضميرها لأنها بمعنى الذِّكْر والوَعْظ.{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)}قوله: {فَي صُحُفٍ}: صفةٌ لـ: {تَذْكِرة} فقوله: {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} جملة معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها. ونحوُها: {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} ويجوز أَنْ يكون {في صُحُف} خبراً ثانياً لـ: {إنَّها}، والجملة معترضةٌ بين الخبرَيْن.{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)}قوله: {سَفَرَةٍ}: جمعُ سافِر وهو الكاتبُ، ومثلُه كاتِب وكَتَبة. وسَفَرْتُ بين القومِ أَسْفِر سَِفارة: أَصْلَحْتُ بينهم.قال: وأَسْفَرَتِ المرأةُ: كَشَفَتْ نِقابها.{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)}قوله: {مَآ أَكْفَرَهُ}: إمَّا تعجبٌ، وإمَّا استفهامُ تعجبٍ.{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)}قوله: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ الضمير للإِنسانِ. والسبيل ظرفٌ، أي: يَسَّر للإِنسان الطريقَ، أي: طريق الخيرِ والشرِّ كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10].وقال أبو البقاء: ويجوز أن ينتصِبَ بأنه مفعولٌ ثانٍ لـ: يَسَّره، والهاء للإِنسان، أي: يَسَّره السبيلَ، أي: هداه له.قلت: فلابد مْن تضمينِه معنى أَعْطى حتى يَنصب اثنين، أو يُحْذفُ حرفُ الجرِّ، أي: يَسَّره للسبيل، ولذلك قَدَّره بقوله: هداه له. ويجوزُ أَنْ يكون {السبيل} منصوباً على الاشتغال بفعلٍ مقدرٍ، والضمير له، تقديره: ثم يَسَّر السبيلَ يَسَّره، أي: سَهَّله للناسِ كقوله: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]، وتقدَّم مثلُه في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإِنسان: 3].{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)}قوله: {فَأَقْبَرَهُ}: أي: جَعَلَ له قَبْراً. يُقال: قَبَرَه إذا دَفَنَه وأَقْبَره، أي: جَعَلَه بحيث يُقْبَرُ، وجَعَلَ له قبراً، والقابِرُ: الدافنُ بيده.قال الأعشى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)}قوله: {شَاءَ}: مفعولُه محذوفٌ، أي: شاءَ إنْشارَه. وأَنْشَرَه: جوابُ (إذا). وقرأ شعيبُ بن أبي حمزة نَشَره ثلاثياً، ونقلها أبو الفضلِ أيضاً وقال: هما لغتان بمعنى الإِحياء.{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)}قوله: {مَآ أَمَرَهُ}: (ما) موصولةٌ.قال أبو البقاء: بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: ما أمره به.قلت: وفيه نظرٌ من حيث إنَّه قَدَّر العائدَ مجروراً بحرفٍ لم يَجُرَّ الموصولَ: ولا أمره به.فإن قلت: (أمرَ) يتعدَّى إليه بحَذْفِ الحرفِ فأُقَدِّرُه غيرَ مجرورٍ.قلت: إذا قَدَّرْتَه غيرَ مجرورٍ: فإمَّا أَنْ تقدِّرَه متصلاً أو منفصلاً، وكلاهما مُشْكِلٌ؛ لِما قَدَّمْتُ في أولِ البقرة عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)}قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً}: قرأ الكوفيون {أنَّا} بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف. والباقون بالكسر. والحسنُ بن على بالفتحِ والإِمالةِ. فأمَّا القراءة الأولى ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بدل من {طعامه} فتكونُ في محلِّ جر. استشكل بعضُهم هذا الوجهَ، وَرَدَّه: بأنه ليس الأولَ فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ الطعامَ ليس صَبَّ الماءِ. ورُدَّ على هذا بوجهَيْن، أحدهما: أنَّه بدلُ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ: وهو أنَّ المعنى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامه فصَحَّ البدلُ، وهذا ليسَ بواضح. والثاني: أنَّه مِنْ بدلِ الاشتمالِ بمعنى: أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير. وقد نحا مكي إلى هذا فقال: لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ، ومنها يتكوَّنُ؛ لأنَّ معنى {إلى طعامه}: إلى حدوثِ طعامه كيف يتأتَّى؟ فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا في الطعامِ نفسِه.والوجه الثاني: أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ، أي: فلينظُرْ لأِنَّا، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها. والوجهُ الثالث: أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو أنَّا صَبَبْنا، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ الضمير إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ، وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ، وجوابُه ما تقدَّمَ.وأمّا القراءة الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه عليه. وأمَّا القراءة الثالثةُ فهي {أنَّى} التي بمعنى (كيف) وفيها معنى التعجبِ، فهي على هذه القراءة كلمةٌ واحدةٌ، وعلى غيرِها كلمتان.{وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)}قوله: {وَقَضْباً}: القَضْبُ هنا قيل: الرُّطَبُ لأنه يُقْضَبُ من النخلِ، أي: يُقْطَعُ. ورجَّحه بعضُهم بذِكْرِه بعد قوله: {وعِنَباً} وكثيراً ما يَقْترنان.وقيل: القَتُّ، كذا يُسَمِّيه أهلُ مكة.وقيل: كلُّ ما يُقْضَبُ من البُقول لبني آدم.وقيل: هو الرَّطْبَةُ. والمقاضِبُ: الأرضُ التي تُنْبِتُها.قال الراغب: والقَضيب كالقَضْب، لكنَّ القضيبَ من فروع الشجرِ، والقَضْبَ في البَقْلِ. والقَضْبُ أي: بالفتح قَطْعُ القَضْبِ والقَضيبِ، وعنه عليه السلام: «أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تَصْليباً قَضَبَه» وسيفٌ قاضِبٌ وقَضيبٌ، أي: قاطعٌ، فقضيب هنا بمعنى فاعِل، وفي الأولِ بمعنى مَفْعول، وناقة قَضِيب لِما يُؤْخَذُ من بين الإِبلِ ولم تُرَضْ، وكلُّ ما لم يُهَذَّبْ فهو مقتضَبٌ، ومنه (اقتضابُ الحديث) لِما لم يُتَرَوَّ ويُهَذَّبْ.وقال الخليل: القضيب: أغصانُ الشجرِ ليُتَّخَذَ منها قِسِيٌّ أو سِهامٌ.{وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)}قوله: {غُلْباً}: جمعُ أَغْلَب وغَلْباء كحُمْر في أَحْمر وحَمْراء. يقال: حديقةٌ غَلْباءُ، أي: غليظةُ الشجرِ ملتفَّتُه، واغْلَوْلَبَ العُشْبُ، أي: غَلُظَ. وأصلُه في وصفِ الرِّقاب. يقال: رجلٌ أغلبُ، وامرأةٌ غَلْباءُ، أي: غليظا الرَّقَبةِ.قال عمرو بن معدي كرب: والغَلَبَةُ: القَهْرُ، أن تَنالَ وتُصيبَ غَلَبَةَ رقبتِه، هذا أصله.{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)}قوله: {وَأَبّاً}: الأبُّ للبهائم بمنزلةِ الفاكهةِ للناس.وقيل: هو مُطْلَقُ المَرْعى.قال بعضُهم يمدح النبيَّ صلى الله عليه وسلم: وقيل: الأبُّ يابِسُ الفاكهةِ، وسُمِّي المَرْعى أبَّاً لأنه يُؤَمُّ ويُنْتَجَعُ، والأَبُّ والأَمَّ بمعنىً.قال: وأبَّ لكذا، أي: تَهَيَّأ، يَؤُبُّ أبَّاً وأَبابة وأَباباً. وأبَّ إلى وطنِهِ، إذا نَزَعَ إليه نُزوعاً، تَهَيَّأَ لِقَصْدِه، وكذا أبَّ لِسَيْفِه، أي: تهيَّأ لِسَلِّه. وقولهم: (إبَّانَ ذلك) هو فِعْلان منه، وهو الزمانُ المُهَيَّأُ لفِعْلِه ومجيئِه.{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)}قوله: {الصآخة}: الصَّيحَةُ التي تَصُخُّ الآذانَ، أي: تَصُمُّها لشِدَّةِ وَقْعَتِها.وقيل: هي مأخوذةٌ مِنْ صَخَّه بالحجَرِ، أي: صَكَّه به.وقال الزمخشري: صَخَّ لحديثه مثلَ أصاخ فوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بالصاخَّة مجازاً؛ لأنَّ الناسَ يَصِخُّون لها.وقال ابن العربي: الصَّاخَّة: التي تُوْرِثُ الصَّمَمَ، وإنها لَمُسْمِعَةٌ، وهذا مِنْ بديع الفصاحة كقوله: وقال: وجوابُ (إذا) محذوفٌ، يَدُلُّ عليه قوله: {لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه}، أي: التقديرُ: فإذا جاءَتِ الصَّاخةُ اشتغلَ كلُّ أحدٍ بنفسِه.{يوم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)}قوله: {يوم يَفِرُّ}: بدل من (إذا)، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ {يغنيه} عاملاً في (إذا) ولا في {يوم} لأنه صفةٌ لشَأْن، ولا يتقدَّمُ معمولُ الصفةِ على موصوفِها. والعامَّةُ على {يغنيه} من الإِغناء، وابن محيصن والزُّهريُّ وابن أبي عبلة وحميد وابن السَّمَيْفَع {يَعْنِيه} بفتح الياء وبالعينِ المهملةِ، مِنْ قولهم: عَناني الأمرُ، أي: قَصَدني.{وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)}قوله: {غَبَرَةٌ}: الغَبَرَةُ: الغُبارُ، والقَتَرَةُ: سَوادٌ كالدُّخان.وقال أبو عبيدة: القَتَرُ في كلامِ العربِ: الغبارُ جمعُ القَتَرة.قال الفرزدق: قلت: وفي عطفه على الغَبَرة ما يَرُدُّ هذا، إلاَّ أَنْ يقول: لَمَّا اختلفَ اللفظانِ حَسُن العطف كقوله: وقوله: وهو خلافُ الأصلِ. والعامَّةُ على فتحِ التاءِ مِنْ {قَتَرة}، وأَسْكنها ابنُ أبي عبلة. اهـ.
اهـ.
|